الوَصمة والأخلاق
"الوصمة والأخلاق"
بعد مرحلة التشخيص النفسي يجد الفرد وعائلته نفسه أمام تحديين. الأول رحلة التّعافي ومدتها، أما التحدي الآخر هي الوصمة من المجتمع. الوصمة هي أحد الأمور التي تُصاحب الاضطرابات او الأمراض النفسية، والتي تعُتبر مشكلة عالمية لاتخص مساحة ديموغرافية محددة. في جميع المُجتمعات توجد الوصمة تجاه اي اضطراب نفسي، بالتالي تُؤثر على الفرد، كحرمانه من الحصول على التدخل العلاجي المناسب خوفا من نظرة المُجتمع تجاهه، او يُحرم من التّفاعل الاجتماعي الممتلئ بالتّقبل، وينعزل عن الجميع خوفا من الحكم عليه. بل يمتد التأثير على ذاته حيث تتدنى ثقته بنفسه، ويتعرض للتمييز الغير منصف في مؤسسات التعليم او العمل مما يحرمه من ان يحظى بالفُرص الجيدة. قد تشعر العائلات أيضًا بالوصمة نتيجة اضطراب أحد أفرادها، مما يمكن أن يؤدي إلى ضغوط إضافية داخل الأسرة.
الوصمة تعني معاملة شخص ما بشكل غير عادل أو مختلف لأنه يعاني من حالة معينة أو ينتمي إلى مجموعة معينة. وغالبًا ما تنطوي على مواقف سلبية أو صور نمطية أو معتقدات يمكن أن تؤدي إلى التمييز أو الإقصاء. يمكن للوصم أن يجعل الأفراد الشّعور بالخجل أو الحرج بشأن هويتهم أو ما يعانون منه، مما يؤثر على احترامهم لذاتهم وكيفية معاملة الآخرين لهم ودعمهم. مهما اختلفت انواع الوصمة الا انها كلها تتعلق بالمواقف والمعتقدات او التّصورات السلبية التي يتبناها المجتمع تجاه الأفراد المشخصين بأي اضطراب، مثل الاعتقاد بأنهم يُشكلون خطر على الآخرين، او انهم ضعفاء جدا أو قد تظهر على شكل التمييز في المعاملة في الأماكن العامة مثل المدارس أو أماكن العمل أو عند تقديم الخدمات الصحية.الوصمة هي التي بناءا عليها تتشكل اعتقاداتنا وتصوراتنا، بالتالي على طريقة تفاعلنا معهم.
حاول المتخصصين والمؤسسات الطبية على مدى السنوات الماضية في الحد من الوصمة المُرتبطة بالامراض النفسية، في سبيل تعزيز بيئة داعمة لهذه الفئة ومنحهم الفرص الي تتناسب معهم. إلا ان قد نُلاحظ أن هناك قطعه مَفقودة في الأمر. إذا ما الذي يجب فعله لكسر هذه الحواجز. لأننا عندما نواجه الوصمة بالمعرفة والتعاطف والاحترام، فإننا نخلق عالمًا يمكن للجميع أن يزدهر فيه دون إصدار الأحكام والتمييز.
ما نحتاجه هي تلك الحلقه المفقوده، وهي توظيف الأخلاق ودعم الحملات التوعوية وغيرها بأُسس أخلاقية. الأخلاق هي مجموعة من المبادئ والقواعد المُنظمة للسلوك الانساني، وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه. ويقول السيوطين بأن الخلق هو ملكة نفسانية تصدر عنها الأفعال النفسانية بسهولة من غير روية. فالأخلاق هي نظام العمل من أجل الحياة الخيرية في الإسلام هو نموذج للسلوك وطريقة للتعامل مع النفس والله والمجتمع. الأخلاق في الإسلام ليست رفاهية يمكن الاستغناء عنها عند تغير الظروف، وليست زينة يمكن ارتداؤها لمناسبة ثم نزعها وقتما يشاء الإنسان. بل إنها ثوابت متجذرة كالأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب، لا تتغير بتغير الزمان لأنها جزء من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما قال تعالى: **(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)** (الروم: 30).
يقول شوقي :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
بمعنى أن الأخلاق هي الجوهر التي تُصوب سلوك الإنسان تجاه غيره ومجتمعه، وهذا ما نحتاج للتذكير به في الحد من الوصمة. يمكن أن تظهر وصمة العار تجاه الأفراد الذين يعانون من من اضطرابات نفسية بطرق مختلفة، علنية وخفية على حد سواء. فمثلا قد يتعرضون للمعاملة السلبية، كالسخرية أو التنمر ، مما يزيد من شعورهم بالعزلة والاضطراب.او قد تظهر في معاملة الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية بطريقة قاسية أو غير إنسانية.إن الوصمة لا تختص المجتمع الخارجي فقط، بل حتى في كنف العائلة قد يجد الشخض ذاته معرضة للتمييز الغير منصف فمثلا معاملة الشخص المصاب بطريقة تختلف عن بقية أفراد الأسرة، مما يزيد من شعوره بالعزلة والرفض.أو الإقصاء الاجتماعي من خلال تجنب الفرد أو استبعاده من التجمعات الاجتماعية أو الأنشطة أو المناسبات العائلية بسبب عدم الارتياح أو المفاهيم الخاطئة حول قدراته. وغيرها من أشكال الوصمات كالمضايقه والتّعالي عليهم.
أجمل مديحٍ في القرآن :
" وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم "
نحتاج إلى الأخلاق التي تُوقظ حس الخير في الفرد، وتدفعه لفعله، بتعزيز بعض المبادئ الاخلاقية من الممكن أن تساهم في منح الآخرين فرصة للتعايش. فمثلا تعزيز المعاملة بكرامة مع الأفراد المصابين باضطراب نفسي كأشخاص يستحقون الاحترام والكرامة، بغض النظر عن حالتهم الصحية قال الله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70). والتعاطف والرحمة محاولة فهم تجارب الأفراد المصابين باضطراب نفسي ومشاعرهم والصعوبات التي يواجهونها.و إظهار الرحمة والتعاطف من خلال الاستماع والدعم العاطفي والتعامل معهم، قال الله تعالى: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ" (الحجر: 88). وتذكير الآخرين السخرية على الآخرين، ونبزهم بالألقاب هي ليست من أخلاقنا قال الله تعالى: "لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ" (الحجرات: 11). تعزيز مبدأ عدم التمييز ضد الأفراد المصابين باضطراب نفسي في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك التوظيف والتعليم والرعاية الصحية.قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13).
على الرغم من ان رعاية فرد مشخص باضطراب، دور مرهق في غالب الأحيان، إلا أن التّحلي بالصّبر وفهم أن التعافي قد يتطلب وقتًا وجهودًا طويلة، قد يُخفف من وطأة الأمر، واحتساب الأجر قال الله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر: 10). ولأن الرعاية تحتاج إلى مُساندة ومصادر دعم اجتماعية أخرى، العائلة والمقربون لابد أن يكون لهم دور في هذا الأمر، تقديم الدعم لمقدم الرّعاية والتفهم لوضع الفرد يُحدث علامه فارقه في الحد من الوصمة، قال الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة: 2). لاينطبق الحد من الوصمة على المجتمع بحد ذاته، العامل الأول المُؤثر هم المتخصصين في مجال الصحة النفسية، نشر الثقافة والوعي عن الاضطرابات النفسية هي مسؤولية كبيرة لابد ان تُؤدّى ضمن ضوابط أخلاقية. المتخصص أمام مهمه مكلّف بها عليه أن يؤديها بأمانه ونزاهه عالية، على المتخصص التحدث بصدق وأمانة عن الاضطرابات النفسية، وتقديم المعلومات الصحيحة والدقيقة لتفادي نشر المفاهيم الخاطئة قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا" (الأحزاب: 70). وايضا تعزيز الشفافية في المناقشات حول الصحة النفسية، وتشجيع الأفراد على مشاركة تجاربهم بدون خوف من الحكم، قال الله تعالى: "وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 42).
وأخيرا، الوصمة هي مشكلة عالمية تعاني منها كل المُجتمعات، وجود حلول مبنيه على ثقافة وخصوصية المُجتمع هي التي لابد التركيز عليها.الوصمة هي ليست فقط نقص في الثقافة او المعرفة، بل من الممكن أن تكون بسبب غياب الخُلق الحسن. تطبيق هذه المبادئ القرآنية يساعد في تعزيز التعامل الأخلاقي والإنساني مع الأفراد المشخصين باضطرابات نفسية، ويعمل على تقليل وصمة العار المحيطة بهم، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر تفهمًا وتعاونًا.و تُساهم في خلق بيئة داعمة ومحترمة تساعد الأفراد على العيش بكرامة وتحقيق إمكانياتهم الكاملة. قال ابن القيّم :الدّينُ كله خُلق فمن فاقكَ في الخُلق فاقكَ في الدّين.
المصادر:
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1489832/
https://www.psychiatry.org/patients-families/stigma-and-discrimination
تعليقات
إرسال تعليق