الباعة المُتجولون لعلم النفس

  هل لاحظت يوما وأنت تأخُذ جولة على منشورات مواقع التواصل الاجتماعي مثل، البرنامجين الشّهيرين التيك التوك والانستجرام. تتدفق اليك كمية هائلة من المعلومات تحت مُسمى علم النّفس؟. فعلى سبيل المثال قد يُصادفك منشور يتحدّث عن خمسة خطوات من خلالها تستطيع أن تقول وداعاً للقلق، وللأبد! أو لربما رأيت مقطع فيديو يتحدث فيه عن ثلاث علامات تتعرف من خلالها أن طفلك لديه اضطراب طيف التوحد؟ او اذا كان  رئيس عملك لاحظت أنه يمتلك أحد هذه الصفات، إنتبه!! قد يكون لديه احد اضطراب الشخصية ولا بد ان تأخذ حذرك منه من الان فصاعدا. سترى تَندفع إليك كمية هائلة من مصطلحات علم النفس التي انتشرت بشكل سريع وجُنوني،وينتشر عنها تعريفات لاتمت بصلة لمفهومها الحقيقي.و لربما صادفت منشورات لحلول سريعة وسحرية وخطوات تشخيصية سريعة. لك أن تتخيل ذات يوم وانا اتصفح على موقع الانستجرام دخلت ملف أحد المستخدمين ولاحظت في ملفه التعريفي، جملة من كلمتين والتي من المُفترض اختارها تعبيرا عن نفسه والتي كانت :

“I am Narcissist!



هذا التعريف في صفحة المستخدم آثار دهشتي!! هل يعي فعلا مامعنى هذه الكلمة؟جميع هذه المصطلحات التي تكتسح المنصات خرجت من أريكة المعالج النفسي إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لتُستخدم بطريقة تنتهك المَعنى الحقيقي لها، وتُستخدم بطريقة عرضية جداً. وتستخدم لوصف أشخاص وأحداث لاتمت بصلة للمعنى الحقيقي للمصطلح ، وتسمى هذه الظّاهرة

Pop Psychology 

تم تعريفها بأنها المعرفة النفسية التي يتم تداولها بين عامة الناس والتي تكون مبالغ في تبسيطها، او مُساء شرحها، وقد تكون معلومات قديمة جدا لاتستخدم حاليا. وفي تعريف آخر هي معلومات من علم النفس مخصصه للاستخدام من قبل عامة الناس، مثل كتب المساعدة الذاتية، وبرامج الاستشارات التلفزيونية والإذاعية. ويمكننا اطلاق عالم النفس الشعبي لوصف المؤلفين والمستشارين والمحاضرين والفنانين الذي يُنظر اليهم على نطاق واسع على أنهم متخصصين في علم النفس، ليس بسبب مؤهلاتهم الأكاديمية. ولكن لأنهم عرضوا تلك الصورة او تم النظر اليهم بهذه الصور استجابا لأفكارهم. علم النفس الرائج قد تبدو مادة نفسية، لكن ليس لها أساس متين حقاً، قد يكون معقولا بطريقة غير معقولة وغالبا مايتم تسويقه بشكل جيد للغاية.  



يأخذ علم النفس الشعبي عدة أشكال منها كتب المساعدة الذاتية، والاستشارات المقدمة من خلال الراديو و البرامج التلفزيونية. او الخُرافات المُنتشرة مثل: "الناس يستخدمون حوالي 10 بالمائة فقط من قدرة أدمغتهم".والعديد، العديد من الخرافات والمصطلحات التي قد يكون لها أساس في علم النفس، ولكنها تظهر بشكل متكرر في اللغة العامية أكثر من الخِطاب المهني - على سبيل المثال: الطفل الداخلي، والدماغ الأيسر/الدماغ الأيمن، والانزلاق الفرويدي.أو مثل التصورات العامة حول المنهجيات النفسية التي لم يتم التحقق من صحتها علميا، مثل البرمجة اللغوية العصبية.

في احد المصادر ذُكر بأن اول ظهور كان لعلم النفس الشعبي او الرائج في القرن السابع عشر .لكن كان الظّهور القوي لعلم النفس الرائج حين انتشرت نظريات فرويد التحليلية بين العامّة، وايضا في البرنامجين التلفزيونين الشهيرين الاول تقدمه اوبرا وينفري و الأخر برنامج د.فيل. إن المعضلة التي نواجهها الان هو ان الإفراط في استخدام هذه المصطلحات زاد من اساءة استخدامها وأيضا أصبحت المصطلحات عُرضة للمعنى المُفترض. لذلك لابد من الاشارة والتنبيه في هذا الأمر لما فيه من التأثير على الناس. انت قد تكون احد ضحايا علم النفس الرائج او علم النفس الشعبي فمثلا هل سمعت من قبل عن هذه المصطلحات التي تتداول بشكل كبير في مواقع التّواصل الاجتماعي؟  


من هذه المصطلحات هو مصطلح التّلاعب النفسي (Gaslighting)

يُستخدم  هذا  المصطلح لوصف اي شخص قام بالكذب عليك، أو اختلفت بالرأي معه، او صدر منه شي غير مراع. بينما في الواقع المعنى الحقيقي للتلاعب هو ان يقوم احدهم بالتلاعب بك للتشكيك بنفسك، لتشكيك بواقعك، في تجربتك بل وحتى ذاكرتك. وغالبا ماتحدث في العلاقات المُسيئة، ويصدر التلاعب من الافراد بهدف زرع الارتباك فيك، واحيانا قد يكون سلوك قسري هدفه التَحكم بك

:الصدمة النفسية (Trauma)

حين يسقط أحدهم أمام مجموعة كبيرة من الناس، يُعبر عن تجربته بأنه قد تعرّض لصدمة كبيرة بعد سقوطي. بدلا من استخدام عبارات أدق مثل تعرضت للاحراج او احسست بالاهانة وغيرها. غالبا مايستخدم مصطلح الصدمات بطريقة عرضية للغاية، لدرجة انها تقلل من المعاناة الحقيقية المؤلمة وهو اضطراب يشعر الفرد فيه بضيق شديد يجعله يشعر وكأنه يعيش التجربة الصادمة مرة أخرى وهو مايسمى باضطراب الكرب ما بعد الصدمة



:مصطلح نرجسي

من أكثر المصطلحات المحبوبة بين الناس، ولاحظت مسبقا أن البعض وصل بأن يصف نفسه في الملف التعريفي بالانستجرام يستخدم للإشارة بأنه شحص يهتم بذاته فقط،  وذاته تعلو فوق كل شيء ومتمحور حوله نفسه. بينما هو اضطراب في الشخصية، يتصف بالاحساس البالغ بالاهمية لذاته، ويميل الى استغلال الآخرين. كذلك لديه حاجة ملحة للاعجاب والاهتمام من الآخرين وليس لديه القدرة للتعامل مع النقد من الآخرين



شخصية سامّه (Toxix):

أصبح الناس يميلون لإلصاق كلمة سام لأي شخص يزعجهم او لايناسبهم. بينما لابد ان يستخدم لوصف المواقف المسيئة التي يتعمد فيها الفرد لإلحاق لك الأذى متعمدا، ويسبب لك ضرر عاطفي شديد. بينما اذا كان الشخص لا يناسبك او من الصعب التعامل معه فهذا لايجعله ساما وغير منصف لالصاق هذه المصطلح عليه

والعديد من المعلومات التي تتداول وكأنها حقائق من علم النفس، منها: انت تستخدم فقط 10% من دماغك، بينما الدراسات والابحاث أثبتت عكس ذلك. والعديد والعديد من المصطلحات مثل الحب المتفجر، الطفل الداخلي، المثيرات،والتشخيصات السريعة لعدد من الاضطرابات. او مثلا قد سمعت عن ان الشخص المناسب لك للارتباط هو الشخص الذي تختلف عنه او عكسك تماما. او ربما قرأت في احد كتب المساعدة الذاتيه انه للتخلص من مشاكل الغضب لديك إلكم كيس ملاكمة. لذلك أحد أدوار المتخصصين هي تصحيح هذه المفاهيم والتوعية فيها بقدر الإمكان والانتباه بعدم استخدام هذه المصطلحات من المتخصصين نفسهم.

والعشرات من الادعاءات التي حصلت على تغطية إعلامية واسعة النطاق، وحتى وصلت إلى الكتب المدرسية، وهي موضع شك. أحدها ـ أساليب التعلم، على الرغم من أن غالبية الدراسات تدحض الفكرة الشائعة القائلة بأن الطلاب يتعلمون بشكل أفضل إذا تطابق الأسلوب التربوي مع أسلوبهم المفترض، إلا أن الخرافة لا تزال قائمة. ربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه عندما يحاول الأشخاص تعلم شيء ما وفقًا لما يعتقدون أنه أسلوب التعلم الخاص بهم، فإنهم يشعرون أنهم تعلموا المادة بشكل أفضل، لكنهم لم يفعلوا ذلك، وفقًا لدراسة أجريت عام 2016 في المجلة البريطانية لعلم النفس بقيادة عالم النفس روجر فان وجدوا بأن الأسلوب التربوي الأكثر فعالية يختلف وفقًا لنوع المادة، وليس الطالب.





لا يمكن أن ننكر أن انتشار هذه المصطلحات كان لها فائدة في تخفيف الوصمة، وزيادة قبول الناس للتحدث عن الصحة النفسية ومناقشتها. الا ان هناك جوانب أخرى وخيمة على هذا الانتشار العبثي. فعلى سبيل المثال بعض المصطلحات أخذت أكبر من حجمها في مساحات التواصل الاجتماعي، أًصبحت تدفعنا في التشكيك في بعضنا البعض. نفقد الثقة في الآخرين ونكون عرضة لتساؤلات منهكه هل هذا الشخص يتصرف وفق طبيعته؟ هل هذا شخص سام بمجرد انه زعزع ثقتي قليلا؟. وصل البعض لدرجة انه ليس من السهل أن يدرك بأن كل شخص لايتفق معه لايتلاعب به. وان ليس كل شخص يضع مصلحته أولا هو بالضروري نرجسي. وان مشاكلنا العاطفية المتعلقة بالتنشئة والبيئة التي تربينا فيها، علاجها بالاهتمام بطفلنا الداخلي.  

تستخدم مؤلفات وبرامج علم النفس الشعبي بديلاً من العلاج النفسي، ويمكن أن تكون كتب علم النفس الشعبي مشكلة لأنها يمكن أن تقود الأشخاص الذين يحتاجون إلى علاج احترافي إلى مسار ليس غير فعال فحسب، بل قد يكون ضارًا أيضًا. علاوة على ذلك، إذا كنت تتلقى بالفعل رعاية في الصحة العقلية، فإن قراءة هذه الأنواع من الكتب يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية. على سبيل المثال، إذا كنت تخضع للعلاج لمعالجة اضطراب الأكل لديك وقرأت كتابًا يشير إلى أن اتباع نظام غذائي هو الحل، فقد يتسبب ذلك في انتكاسات كبيرة مع تقدم العلاج.

في أحد المقالات التي قرأتها ذكر الكاتب بأنه أصبح العملاء يفتقرون إلى الحرية في التعبير عن تجاربهم التي خاضوا فيها. و يفتقرون الى استخدام مفردات تعبر عن تجربتهم بمصطلحات وكلمات أبسط وأكثير تعبيرا، بدون استخدام لغة علمية، او التّكلف في المصطلحات لدرجة انك تشعر ان تجربتهم بها بعض الغُموض، او انها تجربة ثانوية دون تلك التّفاصيل والتعابير الشخصية الفارقة. لاحظت ان البعض يأتي  لجلسة العلاج النفسي وهو يصف الأشخاص والسلوكيات بمصطلحات من علم النفس، بل قد يصل الأمر إلى وصف لآخرين بتشخيصات نفسية مثل الاضطرابات الشخصية (وهو أمر غير مُنصف). 

أًصبحت هذه المفاهيم تعيق أن نتحدث من القلب، دون التشبت بأي كلمات او لغة علمية. حاول التّذكر متى آخر مره تحدثت لصديقك عن بيئة العمل التي تجعلك تشعر بأنك غير مُقدر، وانه لا احد يرى ما تقوم به من إنجازات، وتجعلك تشعر بالتهميش. وانها بيئة تأكلك اكثر من انها تدفعك للعمل. واكتفيت بقول بيئة سامة ومتعبه ويتلاعبون بنا؟!!. وهذا يدفعنا للتساؤل هل هذا الافراط في الاستخدام من الممكن ان يؤدي الى جوع جماعي لإطار يساعدنا على التحدث عن وجودنا وتجاربنا في المجتمع الحديث؟

ويصل الأمر أن هذه المصطلحات بأن تكون مصطلحات تجارية، يستخدمها البعض لبيع خدمة مثل ورشة. يروج لها بطريقة جذابة تجعلك تشعر بأن لديك مشكلة، وتقلل من ذاتك، كطريقة اقناع بأن لديك مشكلة وتحتاج لهذه الورشته حالا. غالبًا ما يتم إثارة علم النفس الشعبي وتبسيطه بشكل مفرط من أجل الربح والجذب.

لماذا من السهل تصديق هذه المصطلحات والاقتناع بها بسهولة؟

تأثير الدواء الوهمي. يمكن أن يتضمن علم النفس الشعبي أيضًا ما يُعرف باسم "تأثير الدواء الوهمي". يحدث تأثير الدواء الوهمي عندما يتم إعطاء مجموعة ما "علاجًا" ليس له تأثير فعليًا. ومع ذلك، تواجه المجموعة نتيجة إيجابية بسبب توقعاتهم بحدوثها.

قد يلجأ مروجين علم النفس الشعبي إلى استخدام أدلة بحثية لدعم أفكارهم، ولكن حتى عندما تكون مبنية على أساس من الأدلة البحثية، فقد يكون هذا الأساس واهيًا. وكما يوضح جيسي سينجال في كتابه "الإصلاح السريع"، فإن بعض النتائج البحثية التي تدعم علم النفس الشعبي مشكوك فيها، وتفشل في تكرارها عندما أعيدت الدراسات. من جانب آخر، يمكن إلقاء اللوم على علم النفس الشعبي لأنه يستبعد العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي قد تؤثر على حياتنا: من خلال التركيز على الفرد، يصرف مؤلفو علم النفس الشعبي الانتباه ويبتعدون عن الحاجة إلى التغيير الهيكلي في المجتمع والآخذ بعين الاعتبار العوامل الأخرى التي لها تأثير على نمونا وتطورنا.

أخيرا، لايمكن إنكار أن علم النفس الشعبي ساهم في تخفيف الوصمة تجاه الحديث عن الصحة النفسية. لكن الاستخدام المفرط للمصطلحات لها تأثير عكسي على الفرد والمجتمع. الإنسان أعقد من أن نختزله في مصطلح واحد وظاهره صغيره. اذ لابد ان ننظر لكل شيء من حولنا بنظرة شمولية. ولا بد لنا أن نكون أكثير وعيا في المصادر التي نثق فيها لأخذ معلوماتنا منها.

على الرغم من جاذبيته، غالبًا ما يفتقر علم النفس الشعبي إلى الأدلة العلمية لدعم ادعاءاته. ويميل علم النفس الشعبي أيضًا إلى المبالغة في تبسيط قضايا الصحة العقلية المعقدة وتقديم نهج واحد للجميع وصرف النظر عن السمات العامة، فإن الأفراد فريدون ومختلفون. لذا فإن هذا النهج المطلق لن ينجح على الأرجح مع الجميع. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

https://time.com/6262891/psychology-terms-misused-gaslighting-toxic-narcissist/?fbclid=PAAab3eQ8oI1bJOEciOl22AWWK-9-tO-UsnX_DgOume0K4_Vv4JglYjbVXQQc

 

https://www.theguardian.com/society/2023/aug/20/triggered-toxic-narcissist-are-you-fluent-in-therapy-speak

https://theconversation.com/the-rise-of-pop-psychology-can-it-make-your-life-better-or-is-it-all-snake-oil-158709 

https://www.wikiwand.com/en/Popular_psychology  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل تتسع هذه الأريكة لي؟

الوَصمة والأخلاق